Thursday, October 04, 2007

من روايـة إلى فيـلم

فى تحويل رواية الى فيلم سينمائى تقبع دائماً مجازفة , أثناء قراءتك لرواية ما فأنت تُخرجها بصرياً , تتخيل الأثاث الذى تعيش حوله الشخصيات , و اذا ما أخبرك الروائى أن لشخصيةٍ ما شارب رفيع تتخيل أنت على الفور الى أى مدى هو رفيع , قد تتذكر شارباً لقريب لك أو لشخص قابلته من قبل , ما أعنيه أنك تتخيل الرواية بصرياً بشكل من الأشكال , لذا حين يقوم مخرج بتحويل الرواية التى قرأتها أنتْ الى فيلم سينمائى فهو بطريقة أو بأخرى يتحدى خيالك , عارضاً عليك خياله الخاص و رؤيته البصرية لما قرأه كلاكما , أقول هذا لأن أمامى ثلاث نماذج مختلفة لثلاث روايات تحولت الى ثلاث أفلام سينمائية على أيدى ثلاث مخرجين.

هناك الكثيرون ممن يُشدّدون على ضرورة الفصل بين الرواية و الفيلم , على اعتبار أن كلاهما وسيط مختلف عن الآخر , هذا منطقى الى حد بعيد , لكنى لا أعلم على وجه التحديد كيف يتم هذا الفصل؟ إذا ما قرأت رواية ثم شاهدت فيلماً مأخوذاً عنها , فكيف يمكنك الفصل بين الاثنين , كيف يمكنك تجنب المقارنة بين الرواية و الفيلم؟ الا اذا كنت عضواً فى لجنة تحكيم مهرجانية أو اذا كنت لا تكوّن خيالاً بصرياً فى ذهنك عما تقرأه أو .... اذا كنت آلة!! , لن نسميها مقارنة , لأطلق عليها اسماً آخر لا تسعفنى ذاكرتى اللغوية الفقيرة على تذكره الآن ... أنا لا أملك أجوبة على أى حال , فقط سأتعرض للثلاث نماذج التى مررت بها.

(1)

قرأت رواية "عمارة يعقوبيان" لـ (علاء الأسوانى) قبل عام و نصف فى الطبعة الثانية التى أصدرتها دار مدبولى , كان تعليقى البسيط بعد القراءة أنها بالفعل رواية سينمائية , فقط , أما أدبياً فلن تعلق كثيراً فى الذاكرة الأدبية إلا لكونِها صَدَرت تحت ظرف سياسى و اجتماعى معين نلمسه جميعاً , لا أراها علامة أدبية تستحق كل هذا الاحتفاء و رأيى بالتأكيد سيكون مختلفاً , هى فى النهاية رواية سينمائية بأحداثها و بشخصياتها و بأماكنها و بغيرها من تفاصيل و مشهيات.

و سمعت مبكراً جداً أن (وحيد حامد) قد اشترى حقوق تحويلها الى سيناريو فيلم سينمائى , و لاحقاً عرفت - من باب الاشاعات - أنه قد أهداها لإبنه (مروان حامد) فى عيد ميلاده , المهم أن (عماد الدين أديب) تصدى لمهمة انتاج الفيلم مستعيناً بنجوم من أجيال مختلفة , و اكتمل الفيلم و رأيت الـ Trailer باللغة العربية و الانجليزية , ثم شاهدت الفيلم نفسه الصيف الماضى فى سينما "رينيسانس رويال" بالاسكندرية.

الرواية بسيطة لا تحمل لغة مميزة , فقط تحمل أحداثاً و شخصيات , تحويلها الى سيناريو لم أعتقد أنها ستكون عملية صعبة , ربما اخراجها هو ما سيستحق العناء , بالفعل قدّم (وحيد حامد) نقلاً مباشراً لأحداث الرواية بلا أدنى مجهود زائد , بل على العكس كان حضور العمارة فى الرواية أعمق بكثير عنه فى الفيلم بشكل واضح , من لم يكن قد قرأ الرواية قبل رؤية الفيلم كان يختلط عليه الأمر فيما يخص الشقة التى يقطن فيها (عادل إمام) مع أخته (اسعاد يونس) , هل تقع فى عمارة يعقوبيان أم الشقة التى تقع فيها هى مكتبه الذى يمارس فيه نزواته النسائية , فى الرواية أنت تعلم أن مكتب و جرسونيرة (عادل امام) هو الموجود فى العمارة , و أن الشقة التى طُرد منها تقع فى عمارة أخرى , هذا مجرد مثال لا ينتقص من سيناريو (وحيد حامد) , بل يؤكد فقط أن السيناريو لم يأت بجديد , و كذلك الاخراج , فكما تخيلت الرواية فى ذهنى كما صوّرها (مروان حامد) , فقط احتوى الفيلم على المشهيات اللازمة للسينما و للدعاية.

لم يقدم الفيلم قراءة مختلفة للرواية , شاهدته بلا منغصات , ما لفت نظرى هو (خالد الصاوى) يؤدى دوره لا بشجاعة فقط - فتلك أمور يسوّيها هو مع نفسه - بل بحرفية و بحساسية عالية أيضاً , ما استفزنى فقط هو الاستسهال فى التناول و أيضاً ذلك الاحتفاء الذى قام به صناع الفيلم أنفسهم لفيلم - هو من وجهة نظرى - عادى لم يفاجئنى , فضلاً عن الاحتفاء بـ (محمد عادل إمام) بدعوى أنه العوام ابن وز!! رغم المشهد الهزيل الذى أداه أمام (محمد الدفراوى) حين كان يخبره عن انتهاك جسده و هتك لعرضه فى السجن (هتكوا عرضى يا مولانا) .... قبل ذلك تأتى النصيحة المجانية التى تبرع بها أبوه (عادل إمام) فى بداية الفيلم لأحد الشباب بأن راحة البال هى مفتاح حياة جنسية ممتعة , ليؤكد أنه زير النساء الفاهم الخبير و هو ما يشدّد عليه فى الخمس أفلام الأخيرة له بشكل مقزز.

لا أملك الدخول فى تفاصيل اخراجية لـ (مروان حامد) , فذوقى يختلف مع النمط الذى يجسده هو و غيره حالياً , (مروان حامد) تلميذ نجيب لـ (شريف عرفة) - المخرج الحرفى الكبير - عمل معه كمساعد مخرج فى عدد من الأفلام , و أشدد هنا على كلمة "حرفى" فهذا سر اختلاف الأذواق , فى سينما (شريف عرفة) لا يدهشنى تغيير الزوايا فى المشهد الواحد و لا يدهشنى الاستخدام المفرط للكرين أو الشاريوه , و لا كثرة الفلاتر الملونة و لا تغيير العدسات باستمرار , وراء كل الأدوات و التكنيكات لابد أن يقبع شئٌ ما فنى , شئٌ ما يخطفنى ... لن يوافقنى الكثيرون لذا سألوذ بكلمة "اختلاف أذواق" كعادتى كلما ضاق الخناق , أريد فقط أن أٌذّكر بأن اخراج (مروان حامد) منذ "لماذا أطفئتى النور يا ليلى" يتّسم باللقطات الاستعراضية , كمشهد (عمرو واكد) فوق مأذنة الجامع يحاول مناجاة ربّه ليستمد منه القوة على الفتنة التى يعانى منها , صوّره (مروان) من كل الزوايا بشكل جعلنى أتقيأ , كان (عمرو واكد) فوق المأذنة , صوّره (مروان) من اليمين و اليسار و من أعلى و من أسفل , Tilt Up و Tilt Down , و من الأمام و من ظهره , كل هذا لم أرى له داعياً.

كذلك يطغى الاستعراض فى "عمارة يعقوبيان" و تحديداً فى تلك اللقطة التى لفتت نظرى و بشدة لثلاث عربات أمن مركزى , قبل تلك المظاهرة الهزيلة التى جاءت فى سياق الفيلم , العربات الثلاث التقطها (مروان) من الامام فى لقطة بعيدة , لم تكن العربات تسير فى طابور وراء بعضها كما هو الطبيعى , كانت تسير بتتابع هرمى غريب , عربة المقدمة يفصلها عن الرصيف التى تسير بحذاه مساحة ضيقة جداً , أضيق من تلك التى تفصل العربة الثانية و أضيق كثيراً فى حالة العربة الأخيرة , لا تسير العربات فى خط واحد , تسير فى خطوط متوازية خلف بعضها بشكل لم أفهمه , ربما لتظهر العربات الثلاث بوضوح فى لقطة بعيدة و هى متجهة نحو الكاميرا و بشكل مخيف مسيطر!!.

(2)

قرأت رواية "The Collector" التى كتبها الروائى الانجليزى John Fawles عام 1963 , و التى ترجمها (عبد الحميد فهمى الجمال) , قرأتها ضمن اصدارات "روايات الهلال" فى أغسطس 1992 تحت اسم "جامع الفراشات" , الترجمة جيدة الى حد ما , لكن الأخطاء المطبعية خصوصاً فى الثلث الأخير من الرواية كادت تهلكنى من الغيظ , أكملتها على أية حال , فالعناد كما أورثنى الكفر سيورثنى الهلاك , الرواية مسرحيّة بعض الشئ تعتمد على شخصين فقط و حدث واحد , رجل يختطف فتاة يحبها و يحبسها فى قبو بيت معزول فى ظل تهوية سيئة حتى تموت فى النهاية , الرواية بسيطة هى الأخرى تعتمد على حدث واحد ومكان واحد و شخصيتين كما قلنا , لا عجب أنها تحولت الى مسرحيات فى أكثر من بلد و الى مسلسلات , كـ (لينين الرملى) الذى مصّرها و مسرحها تحت اسم "الحادثة" و قدمت على خشبة المسرح فى التسعينات , و قام بدورى البطولة فيها (أشرف عبد الباقى) و (عبلة كامل).أخرج الفيلم المأخوذ عن الرواية المخرج الامريكى "William Wyler" تحت نفس الاسم "The Collector" عام 1965 بنجوم شباب غير معروفين وقتها - يذكرنى الممثل الذى قام بدور Grig بـ (محمد صبحى) بشكل غريب , الشكل المثلث لوجهه و هيئة جسمه النحيفة بل و طريقة حركته و نظراته و أداؤه - تم ترشيح الفيلم لنيل ثلاث جوائز أوسكار أساسية , شاهدت الفيلم بعد قراءتى للرواية و لا زلت ميالاً للمقارنة - أو ما اخترناه للتسمية - بين ما كوّنته فى ذهنى و ما رأيته فى الفيلم , الرواية مرة أخرى بسيطة و لا تحمل لغةً مميزة , تأتى شهرتها من الجو النفسى المشحون لتفسير و تحليل دوافع الشخصيات فى صراعهم المسرحى من شد و جذب طوال الرواية , أخرج "ويليام وايلر" الفيلم بنفس الروح , مع استبعاد بعض التفاصيل من الرواية لم يذكرها السيناريو , و اعتمد بشكل أساسى على نقاط أساسية أدّت الى تطور الاحداث , الفيلم هوليودى ستّينى جداً , بموسيقاه و أداء ممثليه و أسلوب المونتاج و الألوان و غيرها من تفاصيل بصرية أخرى , فى النهاية - فضلاً عن وفائه للرواية - جاء متقن الصنع.

الرواية و الفيلم على قدر من البساطة لم تشغلنى معها فداحة المقارنة , فحالها معى كما حدث تماماً فى "عمارة يعقوبيان" , الأحداث واضحة , الخط الدرامى بسيط بلا سرد أدبى معقد , كلاهما روايتان سينمائيتان , لاجديد فى تحويلهما لفيلم.

(3)

يختلف الأمر هذه المرة فربما تكون هذه هى التجربة الأصعب فى التنفيذ و الأكثر خذلاناً لى أيضاً , إنها رواية "كائن لا تحتمل خفته" التى كتبها Milan Kundera عام 1982 و نشرت فى طبعتها الأولى بالفرنسية عام 1984 , الطبعة التى قرأتها كانت الطبعة الثانية الصادرة عام 1998 بترجمة ممتعة لـ (مارى طوق) عن دار "المركز الثقافى العربى" , الرواية عبقرية لروائى مميز جداً و بلغة أدبية خاصة و بتكنيك كتابة صادم له طعم مختلف , استمعت بالرواية كما هو واضح , ثم شاهدت الفيلم الذى أخرجه "Philip Kaufman" تحت نفس الاسم "The Unbearable Lightness of Being" عام 1988 بإنتاج أمريكى قام بالأدوار الرئيسية فيه (Daniel Day Lewis) فى دور توماس , و (Juliette Binoche) فى دور تيريزا , و (Lena Olin) فى دور سابينا كما استعان كوفمان بـ (Sven Nykvist) مدير التصوير الذى رافق (Ingmar Bergman) فى العديد من أفلامه , خرج الفيلم بنكهة أوربية ظاهرية حيث تدور أحداثه فى التشيك كما هو الحال فى الرواية , الفيلم جاء وافياً تماماً لـ "أحداث" الرواية , مع ملامسة خارجية للشخصيات , لذا رغم المجهود المبذول خاب ظنى , Kundera استفاض و شرح بأسلوب خاص جداً شخصيات روايته , و هو الشئ الذى حمسنى لمشاهدة الفيلم , تطور الأحداث فى الفيلم جاءت مفاجئة و دوافع الشخصيات و أفكارهم تكاد تكون غير واضحة من فرط تسطيحها , لا أعلم لماذا توماس مقبل على الجنس ؟ لا أعلم لماذا عاد الى التشيك من سويسرا ؟ و أشياء عديدة أخرى لم أتبينها , فاستدعيتها من الرواية , ناهيك عن تجاهل بعض الخطوط الموجودة فى الرواية .... و لكن هذا لا يخصنى.

قرأت فى أخبار الأدب قبل أسابيع أن "كونديرا" لم يرض عن الفيلم و سيرفض أى عرض آخر لتحويل رواياته إلى أفلام , قرأت ذلك قبل أن أشاهد الفيلم , لم ألق بالاً فقد أختلف مع صاحب الرواية نفسه حول الفيلم لإختلاف الذوق بغض النظر عن كونه صاحب الرواية أو أن روايته أمتعتنى , فالسينما وسيط مختلف نتساوى أنا و هو فى كيفية استقباله , غير أنى بعد مشاهدة الفيلم وافقته.

تدور أحداث الرواية طوال 3 ساعات هى مدة الفيلم بقراءة مبسطة لخط واحد من الرواية , قراءة بسيطة لدخول قوات الاتحاد السوفييتى التشيك , قراءة بسيطة لشخصية توماس بل و مسطحة فى بعض الأحيان , هكذا جاء السيناريو , فكيف جاء الاخراج؟ ... الفيلم يحمل جواً و روحاً أوربية أساسية فى الأداء الحر للممثلين و الموسيقى الكلاسيكية المصاحبة , و بالطبع أماكن التصوير المميزة طوال الفيلم , لكنه فى النهاية فيلم أمريكى اعتمد على الخط الرئيسى فقط فى الرواية , الفيلم كما الرواية يمتلئ بالجنس بلا مواربة و هذا يحسب له , فالجنس عامل أساسى فى الرواية و فى تطور الشخصيات , غير أن المميز فى الرواية من تفاصيل و نفاذ ناجح داخل روح الشخصيات فضلاً عن مغزى عنوان الرواية تم تجاهله تماماً فى السيناريو , لا يصنع هذا مشكلةً فى رأيى كما قلت فهذا لا يخصنى اذا ما عوضنى الفيلم جيداً و هو لم يحدث.

كان لتجاهل أشياء مهمة للغاية فى الرواية , و الاكتفاء بعرض الأحداث و الشخصيات من الخارج دوراً رئيسياً فى القفزات المفاجئة التى حدثت طوال الثلاث ساعات , فجاء الفيلم عادياً بالمقاييس السينمائية عن رواية غير عادية بكل المقاييس , الجو الأوروبى المميز للفيلم يمكن له أن يحتوى أية نوعية من القصص و الأحداث - ربما هو ما أغرى المخرج - لكن لا خصوصية على الاطلاق لتحويل هذه الرواية بالذات.

----------

ربما جاءت آرائى متعسفة , لكنها ليست آراء بقدر ما هى تساؤلات عن طبيعة تحويل النصوص الأدبية لأفلام سينمائية , و التى أعتبرها مجازفة نجا منها القليلون , كـ (داوود عبد السيد) فى "الكيت كات" أو فى "سارق الفرح" , حين قدّم رؤية مختلفة تماماً عن النص الأدبى الذى حوّله لكنه لم يُفقد الخيال الخاص بالقارئ جماله و خصوصيته , لذا أُطلق عليه مخرج فنان لا مخرج حرفى , ربما لأن (داوود عبد السيد) مخرج بنكهة أديب.