Monday, August 18, 2008

إتش دبّـور

أغنية فيلم "إتش دبّـور"

منذ شاهدت تصوير أغنية فيلم (إتش دبّور) قبل أسبوعين من نزول الفيلم نفسه فى قاعات السينما و أنا متحمس لمشاهدته دون قلق, ليس فقط لأنه فيلم كوميدى يقوم ببطولته ممثل كوميدى جديد, لم يكرر نفسه بعد, لكن لأن كلمات و تصوير الأغنية أوضحا لى إلى أى مدى يريد "أحمد مكى" التعبير سينمائياً عن نفسه بعيداً عن كليشيهات الأفلام الكوميدية التى مللنا منها, و التى ربما لن نتذكرها بعد سنوات قليلة سوى بكلمتين فقط : "قديم أوى", فقد قرأت أن "مكى" قرّر أن يخرج قرب نهاية الفيلم من إطار شخصية "هيثم دبّـور" ذى الشعر الكنيش التى صنعت له كل شهرته منذ ظهر بها أول مرة فى حلقات (تامر و شوقية), حيث قال فى حواره المنشور فى موقع إيلاف حين سأله "محمد عبد العزيز" عن سبب حلاقته لشعره قرب نهاية أحداث الفيلم : (التاريخ موجود لمن يريد أن يتعلم منه، فبعد نجاح مسرحية «كشكش بيه» قرر نجيب الريحاني أن يقدم شخصية جديدة, إلا أن مسرحيته الجديدة لاقت فشلاً ذريعاً فأصيب الريحاني باكتئاب شديد و كان سيعتزل التمثيل، ثم لجأ إلى فكرة مختلفة و هي أن يخلع الطربوش و الذقن في نهاية المسرحية الجديدة, حتي يربط الناس بين شكله الحقيقي وبين «كشكش بيه». و أعاد الريحاني عرض المسرحية الفاشلة فنجحت نجاحاً ساحقاً، لذا كان لازم أعمل نقلة نجيب الريحاني، لكن في 2008، فاستغليت نجاح الشخصية في أن أتخلص منها. والحمد لله لاحظت إعجاب الناس بالمشهد في السينما), إذن فـ "مكى" يعى إلى حد كبير أن الكليشيهات عمرها قصير, و أن الجمهور مهما أحبّ شيئاً فهو سرعان ما يتعود عليه و يمل منه فى النهاية باحثاً عن الجديد.

هكذا نجح "أحمد مكى" فى لفت انتباهى إليه فى أول فيلم روائى كوميدى يقوم ببطولته, بعد أن كان قد أخرج فيلم (الحاسة السابعة) من بطولة "أحمد الفيشاوى" بنكهة مختلفة عن الأفلام الكوميدية وقتها و حتى الآن, لم أخرج من (إتش دبّـور) نادماً على الإطلاق, فالكوميديا فى الفيلم ابتعدت عن الافتعال فضلاً عن كونها غير مطروقة فى الأفلام المصرية, ناهيك عن التحايل الذكى فى استخدام كلمات و مصطلحات "أبيحة" يستخدمها الكثيرون باستمرار فى حياتهم اليومية دون أن يتسبب ذلك فى مشاكل رقابية للفيلم كعامل مميز يأتى بعد كونها حيل ظريفة فى حد ذاتها و إن كان الإعلان الدعائى قد استنفذها كلها, فقدم "مكى" مع مخرج الفيلم "أحمد الجندى" حلولاً جديدة على السينما فى مصر لكثير من الألفاظ الـ "أبيحة", من ضمن هذه الحلول لجوئهما إلى كتم شريط الصوت فى أحد المشاهد التى يتشاجر فيها "دبّـور" ليسب صديقه الجديد "كالوشا/سامح حسين" بمنتهى الحرية بعد نوبة من نوبات غبائه التى اشتهر بها فى السينما و التليفزيون, أداء "مكى" التلقائى فى هذا المشهد و فى غيره من المشاهد نجح فى خلق حالة من الضحك الهستيرى بين الجمهور فى قاعة العرض التى حضرت فيها الفيلم بالإسكندرية.

عند ذكر قاعات السينما يجب القول أنى حضرت الفيلم فى حفلة 8 – موعد جديد لحفلات السينما – بسينما رويال رينيسانس فى محطة الرمل, و هى من القاعات المحترمة فى طريقة عرضها للأفلام, أبسط الأشياء أنهم لم يضيئوا نور القاعة إلا بعد انتهاء تترات النهاية, على غير العادة فى قاعات السينما الأخرى التى تكاد تطرد الناس قرب نهاية الفيلم لتسرع ببدء الحفلة التالية, و كأن تترات النهاية فى الأفلام لا يظهر بها أسماء كل من ساهم و بذل جهداً فى الفيلم حتى يراه الناس, و كأنهم غرباء, متطفلين لا حاجة إليهم طالما أن الفيلم انتهى, على طريقة "خلصت حاجتى من عند جارتى" !!

"أحمد مكى" هو صاحب فكرة الفيلم, ليكتب السيناريو كلاً من "أحمد فهمى" و "محمد المعتصم" بابتكار و سلاسة فى تطوير الكوميديا التى جاءت مختلفةً عما كتباه معاً من إفيهات و جمل حوار لـ "أحمد حلمى" فى فيلمه قبل الأخير (كده رضا), فـ (إتش دبّـور) يحكى تجربة "إتش دبّـور" الشاب الثرى المرفه ابن رجل الأعمال "دبّـور/حسن حسنى", صاحب شركة مستحضرات تجميل الذى يتعرض للسجن نتيجة تلاعب منافسته فى السوق - سيدة الأعمال "هالة فاخر" - فى التركيبة الكيميائية لمنتجه الجديد (شامبو Hairy Hair), بمساعدة "شعراوى/معتز التونى" أحد الكيميائيين العاملين فى شركات "دبّـور", ليضطر "دبّـور" الإبن إلى ترك حياة الترفيه و "الصياعة" التى كان يعيشها, بعد أن تنكر له أصدقاؤه متهربين من مساعدته و انتشاله مما حدث لحياته, فلا يجد المساعدة سوى من سائقه "السريانوسى/لطفى لبيب" الذى يستضيفه فى حارة شعبية يعيش فيها مع ابنته "أرواح/إنجى وجدان", ليبدأ "إتش دبّـور" محاولات التأقلم مع جو الحارة, بشكل يختلف عن "علاء ولى الدين" فى فيلم (ابن عز), رغم تشابهما فى التيمة الرئيسية, إلّا أن السيناريو هنا أكثر حيوية, فعلى مدار معظم مشاهد الفيلم كانت هناك الكثير من الكوميديا الساخرة المبتكرة و البعيدة عن التكرار و التنميط المتوقع فى مثل هذه النوعية من الأفلام, دراما الفيلم تنشأ بشكل أساسى على التناقض بين شخصية "دبّـور" الأليطة جداً, و بين الحياة التى يجب عليه الإنخراط فيها داخل الحارة, ففى الحارة قابل شخصياتٍ جديدةً عليه و متنوعة... الصينيان النموذجيان "بينج" و "بونج" الذان يمتلكان عربة فول فى أحد أركان الحارة يأكل عندهما الجميع صباحاً, الكهل "محمد عبد المعطى" الذى يمتلك محلاً لتأجير شرائط الفيديو, يكتب سيناريوهات مستهلكة معتقداً أن كل ما يكتبه قد تمت سرقته من الآخرين, منها أفلام هندية و أمريكية معروفة, ثم ذلك الشاب العاطل "كالوشا/سامح حسين" الذى يتعرف عليه فى أول ساعات دخوله الحارة سكراناً مرتمياً فوق عربة كارو أثناء زواج أمه فى إحدى ساحات الحارة من شاب أصغر منها و منه, و "أرواح" ابنة سائقه القديم "سريانوسى" التى كانت بداية تعارفهما ذلك الصوت المميز للـ Windows صادراً من غرفتها, ثم تتوثق علاقتهما فى نفس المشهد من خلال نطقها المميز للغة الإنجليزية.

هكذا اكتملت الشخصيات التى بنيت عليها قصة الفيلم, ليأتى السيناريو - رغم احتوائه على عدة مشاهد زائدة أخلّت بالإيقاع السلس للكوميديا فيه كمشاهد "هالة فاخر" مع "معتز التونى" - جديداً متدفقاً بفضل حيوية بقية الممثلين و تفاهمهم فى مشاهد كوميدية مميزة جداً, منها مشهد دخول "إتش دبّـور" الحمام بعد أكلة فول عند "بينج" و "بونج" و سيجارة كليوباترا سوبر من "السريانوسى", جاء أداء "أحمد مكى" فى هذا المشهد إلى جانب حجم اللقطات التى إختارها المخرج "أحمد الجندى" و المونتاج و المؤثرات الصوتية الموجودة ليصنع مشهداً مضحكاً بهستيريا, لتساعد كل هذه العناصر باستمرار فى صنع نكهة خاصة للفيلم, فنفس العناصر تكررت فى الفيلم فى أكثر من مشهد, كمشهد تناول فيه "إتش دبّـور" و صديقه "كالوشا" كل أنواع المخدارت و المكيِّفات و الكحوليات الممكنة و بكل الطرق, مدة المشهد لم تكن قصيرة و تم تصويره من زاوية واحدة فقط, لكنه جاء ذكياً و مسلّياً جداً لأنه نجح فى مداعبة التجارب الواقعية التى عايشها المشاهدين فى مثل هذه السهرات, فعبر عنها المشهد باتقان شديد و بمحاكاة تبعث الضحك بالتأكيد, كذلك المشهد الذى يضطر فيه "إتش" إلى العمل كمنادى للركاب خلف "السريانوسى" فى الميكروباص الذى يقوده, تصاعد الكوميديا و السخرية من كل شئ فى هذا المشهد جاء متقناً, بدءاً من طريقة ندائه و انتهاءاً بالركاب أنفسهم... كلها مشاهد تعتمد على زاوية ثابتة يختارها المخرج ثم ينسقها منسق الديكورات, ليتركوها بعد ذلك إلى الممثلين القائمين بالمشهد فيمرحوا فيها بطريقتهم و مخزونهم الخاص, خالقين جواً تلقائياً جديداً فى تفاصيله.

العناصر الفنية فى الفيلم لم تكن مميزة أو استثنائية, فقد جاءت بسيطة ربما لتناسب ما أراده صنّاع الفيلم (لم يقلل منها سوى بعض المشاهد المكتوبة باستسهال فى السيناريو على فترات, لتأتى خارج الجو العام للفيلم أقل من بقية المشاهد, فضلاً عن تصوير بلا خطة أو هدف معينين, فقط كتحصيل حاصل لتسجيل ما يحدث), فديكور الحارة بسيط بلا افتعال, ميزته الألوان و الخطوط العام لحركة الممثلين فى الممرات بين البيوت, كذلك ديكور شقة "السريانوسى", و ملابس الشخصيات التى جاءت مطابقة لحالة الـ Characterization التى تعمد السيناريو ترسيخها منذ البداية, سواء ملابس الطبقة الثرية التى جاء منها "دبّـور" أو ملابس الشخصيات التى احتك بها فى حارة "السريانوسى", ساعد على ذلك اختيار الممثلين فى الأدوار المناسبة لهم, شاملاً الممثلين الثانويين الآتين من سلسلة إعلانات ميلودى بنفس شخصياتهم, ليظهروا تباعاً فى السيناريو فى المكان و الزمان المناسبين, يقطع كل ذلك مشاهد "هالة فاخر" و "معتز التونى", تكرر الأمر حتى وضح لى أن كاتبا السيناريو لم يهتما كثيراً بالابتكار فى هذه المشاهد, فكانت تأتى فقط لتذكرنا بقصة الفيلم الأساسية و هى قضية "دبّـور" الكبير المحبوس بسبب شامبو Hairy Hair, لتصبح سبباً رئيسياً فى ارتباك الإيقاع على فترات.

نجحت بقية المشاهد - أو الإسكتشات المترابطة - فى إعادة الفيلم إلى جوه الساخر من كل شئ, و أى شئ يعيشه أو يشاهده الجمهور المصرى فى القنوات الفضائية أو على صفحات الجرائد أو حتى فى تعاملاتهم اليومية... فمن سيسخر - بذكاء - من التفاصيل اليومية التى يعيشها أو يمارسها غالبية الشعب المصرى سيلقى نجاحاً الآن و سنتذكره لاحقاً, لذا دأب السيناريو على السخرية و كسر الكليشيهات الثابتة المرتبطة فى الأذهان بالأشياء اليومية الموجودة فى كل مكان مستخدماً تيمات موسيقية مشهورة من مسلسلات و عروض العرائس الأجنبية, "أحمد مكى" نفسه كسر الهيئة المعتادة لشخصية "إتش دبّـور", فخلع باروكته الكنيش - دون أن يسخر من صلعته التى ظهرت لامعة تحت الباروكة !! - و سلسلته الفضية (H) قرب نهاية الفيلم, ثم أَغْرَقَ الفيلم فى تيمة الفقراء أجدع من الأثرياء, مما ذكرنى بنفس المقارنة الساذجة بين الطبقتين فى فيلم (لو كنت غنى) الذى قام "بشارة واكيم" ببطولته فى الأربعينات, هذه النهاية المحروقة و المكررة, فضلاً عن الـ "المستند الخطير" الذى يتواجد بملل فى السيناريوهات ليحل أزمة الشخصيات الطيبة ضد الشخصيات الشريرة فى كل الأفلام الكوميدية و غير الكوميدية, قللا كثيراً من استمتاعى بالفيلم, تبقت لّى فقط لحظات هستيريا الضحك المبتكرة فى كتابتها و تنفيذها لتجعلنى أنصح كل صديق أقابله بعد المشاهدة أن يشاهد الفيلم, ربما يكون فيلم (إتش دبّـور) أقرب إلى المشاهد من فيلم (الحاسة السابعة) الذى أخرجه "أحمد مكى" بسبب كاركتر "إتش دبّـور" نفسه الذى اشتهر لدى المشاهد, أو بسبب تواجد الشخصيات فى طبقة اجتماعية و اقتصادية أوسع يسخر منها الجميع, لكنه جاء أقل فنياً, ربما أجرأ, لكنه أقل, يكفيه فقط أنه قد قالها هنا صريحة واضحة لـ "أرواح" فى بداية تعارفهما : الفرق بين الـ B و الـ P... زى الفرق بين الـ S و الـ T.

Tuesday, August 05, 2008

الإيقاع أفضل أدواته و أضعفها الإلقاء : يوسف شاهين شاعراً

في الكثير من أفلام يوسف شاهين, خاصة التي صنعها في السبعينيات والثمانينيات, تكتسب لغته السينمائية قدرة علي الإيحاء والتعبير عما يتجاوز سطح الصورة ورؤية بليغة للعالم, أو perspective eloquent, كما يسميها "ماركيز" في كتاب "رائحة الجوافة", و التي تميز الأديب الحقيقي من عدمه. أهم خصائص هذه الرؤية الشعرية أن يكون الإسلوب نفسه هو جوهرها. لا يمكن مثلا فصل رؤية ماركيز للعالم عن أسلوب الواقعية السحرية الذي أصبح في حد ذاته تعبيرا عن جوهر هذه الرؤية. بالنسبة لشاهين لا يمكن أيضا فصل مضمون أي من أفلامه عن اسلوبه الذي يتفشي في كل عناصر العمل من تصوير وتمثيل ومونتاج ..الخ, بحيث يمكن أن تتعرف علي أي من أفلامه, أو ما يشبهها في الإسلوب, بمجرد النظر اليها, حتي إذا لم تكن قد شاهدتها من قبل. هذه الرؤية يمكن أن نطلق عليها الواقعية النفسية, تمييزاً لها عن الواقعية الاجتماعية و الواقعية الاشتراكية اللذين هيمنا علي تاريخ السينما في مصر و أعاقا القدرة علي الاستمتاع و تقبل أنواع أخري من الأفلام لدي الغالبية الساحقة من الجمهور, لكن يظل هذا التعريف عاماً و لا يصف بدقة الإسلوب المتفرد لشاهين بين كل مخرجي العالم بغض النظر طبعاً عن تباين المستوي الفني لأفلامه.

من خصائص الشعر أيضاً أن يتجاوز الوسيط ( اللغة, الصورة ) وظيفته الوصفية الإخبارية المباشرة و يعود إلي منابعه كمثير حسي وجمالي للعقل, و في هذا المفهوم فإن سينما شاهين احتفالية و عيد للحواس و مثيرات المشاعر حتي و هي تتحدث عن وقائع و أفكار مباشرة جداً, وحتي لو كانت توثق هذه الوقائع ظاهريا, ومن العجيب مثلا أن قمة اللغة الشعرية عند شاهين تتجلي في أفلامه ذات النزعة التوثيقية مثل "الناس و النيل" و "القاهرة منورة بأهلها" و "العصفور" و "اسكندرية ليه؟". و مهما كان جفاف وتجريد الموضوع الذي يتناوله شاهين فهو يحول الشريط الي مثير حسي يخاطب العين والأذن قادراً - بقدرة الشعر السحرية - علي مخاطبة بقية الحواس الخمس أيضاً. من هنا اهتمامه البالغ بالموسيقي و الرقص و التشكيل كأدوات أساسية للتعبير الشعري.

شاهين و الموسيقي

لو لم يكن شاهين سينمائياً لكان قد أصبح موسيقيا بالتأكيد. حاول أن تتذكر واحداً من أفلامه و سوف يأتي إليك مصحوباً بالموسيقي و الأغاني المميزة له. في الظاهر يبدو أنه متأثر بالميلودراما الغنائية التي سادت السينما المصرية. هذا صحيح و لكن الأغاني في معظم هذه الأفلام لم يكن لها علاقة بنسيج الفيلم ككل, الهدف منها هو الاستماع الي أغان جيدة بجانب مشاهدة قصة سينمائية, أو العكس مشاهدة قصة سينمائية بجانب الاستماع إلي مطربك المفضل. الموسيقي و الأغاني في أفلام يوسف شاهين جزء عضوي لا يمكن فصله عن معني الفيلم وعن احساسك به. خذ عندك "عودة الإبن الضال" أو "العصفور" أو "اليوم السادس"... أو غيرها من أفلامه التي تلعب فيها الموسيقي دوراً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله أو حتي حذف أو اضافة شئ هنا أو هناك. و مع هذا الاهتمام الشديد بموسيقي أفلامه و احتوائها غالباً علي استعراضات و أغان إلا أنك لن تجد - غالباً - إفراطاً في استخدامها باستثناء بعض أفلامه الأخيرة مما قد يكون ناتجا عن ضعف السمع الذي تفاقم لديه في سنواته الأخيرة و جعله أكثر ميلاً للأصوات المرتفعة.

و من الحكايات المعروفة مثلا أثناء اعداد أغنية "حدوتة مصرية" لـ "محمد منير" أنه كان يستمع إلي الأغنية كما تم تنفيذها في الإستديو حين بدأ يطلب من مهندس الصوت أن يلغي أصوات الآلات الموسيقية واحدة وراء الأخري, حتي لم يبق في النهاية سوي صوت الإيقاع و "محمد منير" فقط و هو الشكل الذي خرجت به الأغنية في النهاية. من المعروف أيضا أنه كان يجيد العزف علي البيانو و له بعض المحاولات التأليفية, و قد غامر في أحد أفلامه الأخيرة و هو "سكوت هنصور" بتلحين أحد استعراضات الفيلم بعد أن تأخر الموسيقار الراحل "كمال الطويل" عن تسليم اللحن في موعده. سعي شاهين في فترات من حياته الي إنجاز أفلام موسيقية خالصة, لعل أول هذه المحاولات كانت مع "ليلي مراد" في "سيدة القطار" و "فريد الأطرش" في "ودعت حبك" و لكن لم يستطع أن يخرج فيهما كثيرا عن نمط الأفلام الغنائية المصرية في ذلك الوقت.

في الستينيات حين سافر إلي لبنان قام بإخراج فيلم موسيقي كامل لـ "فيروز" هو "بياع الخواتم" المأخوذ عن مسرحية موسيقية, و لكن غلب عليه الشكل المسرحي الإستعراضي. المحاولة الأكثر اكتمالا لصياغة فيلم موسيقي كانت "عودة الإبن الضال" الذي يبدأ بعبارة (مأساة موسيقية) علي الشاشة, و كأنه مع مؤلف الفيلم "صلاح جاهين" كانا يضعان تعريفا لنوع فني جديد من الأفلام الموسيقية يميز المزاج و الميراث الموسيقي المصري و يتعارض مع نوع الكوميديا الموسيقية الهوليوودي الذي تحول إلي هجين غريب في السينما المصرية. "عودة الإبن الضال" نموذج مكتمل لما يمكن أن نطلق عليه مأساة موسيقية مصرية ولكن للأسف الشديد لم تستمر هذه المحاولة في أفلام لاحقة بعد أن تحول شاهين - الملول بطبعه وعاشق التغيير إلي سيرته الذاتية و الأفلام التاريخية بعد ذلك. و للأسف أيضاً لم ينتبه النقاد و لا السينمائيون إلي خصوصية و خصائص هذا الفيلم الفذ مما يحتاج إلي مقال آخر مفصل.

الشئ المبهر فيما يتعلق بالغناء والموسيقي في أعمال شاهين هو قدرته علي استشراف مستقبل الذوق الموسيقي العام, وليس الأمر فقط أنه اختار موسيقي نشيد (راجعين) لفيلمه "العصفور", وهو الفيلم الذي منعه وزير الثقافة في ذلك الوقت "يوسف السباعي" و لم يسمح بعرضه إلا بعد انتصار أكتوبر وتحولت موسيقاه إلي النشيد الوطني لمصر (قبل أن يقوم السادات بتغييره مرة أخري بنشيد بلادي), و لكن بصيرة شاهين العجيبة تتجلي في أن المطربين الذين بقوا من هذا العصر و المفضلين لدي الشباب المثقف الآن هم "الشيخ امام" و "ماجدة الرومي" و "محمد منير" الذين خرجت أصواتهم داخل قاعة عرض سينمائي لأول مرة علي يد يوسف شاهين. و رغم أنه عمل دائماً مع مؤلفين مصريين, يميلون للطابع الشرقي في الموسيقي غالباً, مثل "علي اسماعيل" و "كمال الطويل" و "عمر خيرت" و "محمد نوح", إلا أنهم يتميزون مثله بالفهم العلمي للوسيط الفني و لديهم القدرة مثله علي تطبيق المعايير العلمية العالمية علي موسيقاهم بحيث تستطيع أي أذن تقبلها واستساغتها. و فيما يتعلق بعمله في تركيب هذه الموسيقي علي مشاهد الأفلام ودمجها, بجوار الأغاني الأخري المستخدمة في المقدمة أو الخلفية و شريط الصوت بشكل عام, فقد كان لديه براعة نادرة في التوليف الصوتي (الميكساج) و في التوفيق بشكل خاص بين الموسيقات الشرقية والغربية داخل جديلة واحدة منسجمة ومتناسقة تماماً. أحد الأمثلة البارزة علي ذلك المقطع الذي يتوسط فيلم "اسكندرية كمان و كمان" عندما يغادر هو - في دور المخرج يحيي - و عمرو عبد الجليل - في دور تلميذه - قاعة ختام مهرجان كان في فرنسا بعد فشلهما في الحصول علي جائزة والمزج الموجع بين (ميلانخولية) "أم كلثوم" في أغنية "فات الميعاد" وبين إحدي الأغاني الفرنسية الشعبية التي تعزف علي الأكورديون.

شاهين هو أيضا المخرج الوحيد الذي ظهر ألبوم باسمه يحمل بعض موسيقي و أغاني أفلامه في الثمانينيات. الألبوم ضم أغاني لـ "ماجدة الرومي" في "عودة الإبن الضال" و "محمد منير" في "حدوتة مصرية" و "الشيخ إمام" وأداء الكورال لنشيد (راجعين) للموسيقار "علي اسماعيل", و الطريف أنه ضم أيضا بعض المقاطع الحوارية من فيلمي "الأرض" و "الناصر صلاح الدين". هذا بالطبع أمر مختلف عن الألبومات التي تصدر باسم المطربين وتضم أغانيهم في الأفلام, أو الألبومات التي تصدر بمصاحبة الأفلام كنوع من الدعاية المتبادلة بينهما, وبالطبع تختلف عن الـ فيديوكليب الذي يتم عرضه علي القنوات الفضائية كدعاية مباشرة للأفلام. الموسيقي عند شاهين تتجاوز هذا الدور التكميلي التجميلي وتنحو الي أن تصبح صوت الصورة نفسها - اذا أمكن للصورة أن يكون لها صوت - ولعلها تهدف أيضاً إلي تعويض مالا يمكن قوله بالكلمات... بالحوار, الذي رغم كثرته, أو ربما بسبب كثرته, يظل أضعف ما في أفلام يوسف شاهين وأقل عناصرها شاعرية.

شاهين و الرقص

لم يكن اهتمام شاهين بالرقص أقل من اهتمامه بالموسيقي حتي اتهمه البعض بتتفيه القضايا السياسية واختزالها في الرقص كما في المصير, أو في جعل قرداتي يعزف ويجيد رقصات "جين كيلي" و "فريد أستير" كما في "اليوم السادس". الرقص عند شاهين هو قمة فنون الأداء التعبيرية وحتي في الأفلام التي لا تحتوي علي رقصات فإن حركة الممثلين داخل الكادر وحركة الكاميرا من حولهم ترسم خطوات راقصة مرسومة بدقة. و هو عندما تخيل أن له ابناً في آخر عمل عن سيرته الذاتية "اسكندرية نيويورك" جعله راقصاً, و يمكن تتبع هذا الخط منذ "اسكندرية ليه؟" الذي يروي فيه جزءاً من فترة مراهقته من خلال شخصية (يحيي) التي أداها "محسن محيي الدين". في عدد من المشاهد نعرف شغف يحيي بالرقص و إجادته له بجانب عشقه للتمثيل, و عندما يتحول "محسن محيي الدين" إلي امتداد معنوي له يصر علي تعليمه الرقص ليصنع منه فناناً استعراضياً شاملاً كما فعل في "اليوم السادس", و هو يشير الي هذه الوقائع في الجزء الثالث من الثلاثية "اسكندرية كمان وكمان", من خلال علاقة المخرج (يحيي) بتلميذه, و هذه المرة يسعي إلي تحقيق حلم الرقص من خلال اكتشافه الجديد "عمرو عبد الجليل" الذي يؤدي "دور محسن محيي الدين"! الرقص عند شاهين ليس فقط معادلاً للفن في مقابل الحياة, و لكنه معادل للحرية في مقابل الكبت كما في المصير حيث يقع الشاب (عبدالله/هاني سلامة) ضحية الصراع بين حبه للرقص وبين ميله للتطرف الديني. و يدرك شاهين بحسه الفطري هنا العلاقة الوثيقة بين الرقص و الفن باعتباره أقدم أنواع الفنون - و العبادات أيضاً عندما كان الفن جزءاً من الدين, أو العكس.

شاهين و التشكيل

أهم ما في اسلوب شاهين كمخرج, بعد الإيقاع المتدفق و الحركة الدائبة الرشيقة بين المشاهد واللقطات, هو تكوين الكادر الذي يبدو كما لو أن هناك رغبة في تحويل كل لقطة إلي لوحة تشكيلية حية. و غالباً ما يتشكل التكوين في لقطاته من مقدمة للكادر وعمق تحتلهما الشخصيات ومن إطار علي الجانبين أو أعلي و أسفل من الديكور و الإكسسوارات, و من القليل جداً أن تجد في أفلام شاهين كادراً مفتوحاً أو عشوائي التكوين, و غالبا مايتم التنسيق بين حركة الممثلين و حركة الكاميرا لرسم تكوينات جديدة داخل اللقطة الواحدة. و بجانب التكوين هناك بالطبع حرص علي اختيار الألوان والإضاءة بشكل يتناسب مع احساسه بالمشهد و الإحساس الذي يريد توصيله من خلاله... و مع أن هذه بديهيات عمل المخرج السينمائي, إلا أن الكثيرين يتجاهلونها أو لا يجيدونها بسبب الحركة الدائمة في الصورة السينمائية أو ظروف التصوير التي قد يصعب معها التحكم في كل هذه العناصر في نفس الوقت, أو ببساطة لأنه ليس لديهم ثقافة تشكيلية. و يبدو أن خبرة شاهين بالمسرح التي اكتسبها من خلال دراسته في الولايات المتحدة قد خلقت لديه هذا الإحساس الشديد بالتكوين والتفكير في اللقطة باعتبارها مشهداً مسرحياً متكاملاً.

شاهين و الأدب

من الطبيعي أن يوسف شاهين سعي, خاصة في منتصف حياته المهنية عندما ازداد نضجاً فنياً و وعياً سياسياً و اجتماعياً, و توسعت دائرة معارفه بأهل الثقافة, إلي التعاون مع أدباء و مفكرين معروفين. بدأ هذا التعاون مع فيلم جميلة في عام 1958 الذي كان بداية تفتحه علي عالم السياسة أيضاً, حيث شارك في كتابة السيناريو كل من "يوسف السباعي" و "نجيب محفوظ" و "عبد الرحمن الشرقاوي". ثم تكرر التعاون مع هذه الأسماء في "الناصر صلاح الدين" , و مع نجيب محفوظ في "الإختيار" ثم مع عبد الرحمن الشرقاوي في "الأرض", وهو أحد الأعمال النادرة التي أخذها عن نص أدبي معروف لم يتكرر إلا مع رواية اليوم السادس للأديبة الفرنسية المصرية "أندريه شديد".

عمل شاهين أيضاً مع "حسن فؤاد", الذي شاركه في كتابة سيناريو "الأرض" و مع "لطفي الخولي" في "العصفور" و "صلاح جاهين" في "عودة الإبن الضال", و "يوسف إدريس" في "حدوتة مصرية". لم تكن العلاقة بين شاهين و كتاب سيناريوهات أفلامه علي ما يرام دائماً, ليس فقط لأنه كان يفهم و يعشق الوسط السينمائي أكثر بكثير من حبه للأدب, و لكن أيضاً لأنه كان يفرض رؤيته و وجهة نظره علي أي سيناريو خاصة منذ أن بدأت أفلامه تصبح أكثر التصاقا به, أي منذ اسكندرية ليه؟. و أعتقد أنه حتي لم يكن قارئاً جيداً للأدب. و خلافه الشهير مع "يوسف إدريس" أثناء عمل "حدوتة مصرية" يدل علي أنه لم يكن يؤمن بقدسية النص الأدبي, و حتي رواية "اليوم السادس" قام بعمل تعديلات كثيرة عليها غيرت من مضمون العمل و معناه. يمكننا أن نقول, في النهاية, أن الشعر في أعمال شاهين متين العناصر فيما يتعلق بالإيقاع و الموسيقي و الصورة الشعرية, و لكنه أضعف فيما يتعلق بلغة الكلام, غير أن هذا العيب يتلاشي تماماً في الأعمال التي شهدت تعاوناً صحياً مع كتاب متمكنين من اللغة كما في "الأرض" و "الإختيار" و "العصفور" و "عودة الإبن الضال".

------------------------

المقال للناقد السينمائى "عصام زكريا" تم نشره هذا الأسبوع, فى العدد رقم 786 من جريدة (أخبار الأدب).