دائماً يخطر ببالى هذا الفيلم, متذكرًا مشهد (حسن حسنى) وهو ينقر طبلته بعصاه الرفيعة لترقص (حنان ترك) على إيقاعها. جو المشهد بلقطاته وبتصاعد إيقاع الطبلة مع ارتجافات (حنان ترك) تصيبنى بنشوة مميزة تمزج بين الحسى والروحى, نشوة تسيطر علىّ تمامًا... قررت فى النهاية الإستعانة بنضارة سينما (داوود عبد السيد) والحديث عن "سارق الفرح" هربًا من الركود.
الفيلم من تأليف وإخراج (داوود عبد السيد), وأنتجه (سلطان الكاشف) - زوج (لوسي) - عام 1994. (لوسي) تحديدًا تعد من العلامات المهمة فى سينما (داوود), أيضًا أفلامها مع (داوود) تعد من العلامات الفارقة فى تاريخها. لا أنسى دورها فى فيلم "البحث عن سيد مرزوق". هى تستطيع ارتداء دور الأنثى المرسومة بعناية فى سيناريوهات (داوود), و لعل دورها فى "سارق الفرح" أبلغ دليل على ذلك.
سيناريو الفيلم الذى كالعادة كتبه (داوود عبد السيد) بنفسه مأخوذ عن قصة قصيرة للروائى (خيرى شلبى), يدور بشكل أساسى حول التلاعب بالحلم, التلاعب بالرغبة, فعن التلاعب فى سينما (داوود عبد السيد) - سينما (المهمشين) كما يحب النقاد أن يطلقوا على سينما جيل الثمانينات - الأبطال لا يصارعون سلطة حكومية كالعادة, ولا قوانين , ولا يخوضون صراع لقمة العيش بالمعنى الشائع أيضًا, هم عادةً ما يصارعون أحلامهم ورغباتهم وذواتهم بشكل أساسى فى بيئة مغلقة عليهم وأحيانًا مغلقة فيهم. فى الفيلم تدور القصة الرئيسية حول "عوض/ماجد المصرى" الذى يحب "أحلام/لوسى" ويريد الزواج منها رغم ضيق حالته المادية فهو لا يستقر فى حرفة ويلتقط رزقه من الشارع كلما تطلب الأمر, المكان هو عشش عشوائية فوق هضبة المقطم يتقاسم الجميع فيها الهواء والماء والسجائر وأحيانًا الرغبات. نفهم فى البداية أن "شطة/محمد شرف" عاد من الخليج بجهاز كاسيت وتليفزيون وكل ما يتطلب الزواج من أنثى يفرغ فيها شهوته, وقد تجسدت أحلامه فى (أحلام). يسير مع والدته فى زفة يحيط بها الأولاد والبنات الصغار والسيدات فى المكان. المسيرة تسير على أغنية "فى بنت هاتتجوز" التى كتب كلماتها (داوود عبد السيد) ولحنها (راجح داوود), ليبدأ أول تعرف بين المُشاهد والفيلم الذى يأتى بأفكار إخراجية شاردة عن المعتاد. تدعم - فى نفس الوقت - جو الفيلم بشكل رئيسى , كلمات الأغنية بسيطة كاللحن, تحكى لنا فيها "تحية شمس الدين" بصوتها طقوس احتفالية الزواج فى تلخيص عام لهذه المؤسسة الإجتماعية التى يخوضها البشر: مؤسسة "الزواج". يوافق "المعلم بيومى/لطفى لبيب" الذى يعمل ماسحًا و مشرفًا فى أحد المواقف العمومية للسيارات على زواج "شطة" من ابنته فيجن جنون "عوض" محاولاً إنقاذ حلمه بالزواج من "أحلام" التى تحبه هى أيضًا. يلح على "المعلم بيومى" مصطحباً صديقه "عنتر/محمد هنيدى" و "عم ركبة/حسن حسنى" و أمه محاولاً عقد إتفاق للزواج من (أحلام). من هنا تبدأ رحلة الفيلم. على (عوض) من الآن وفى خلال 10 أيام أن يأتى بـ (غويشتين دهب عيار 18 مش 14) كما اشترط عليه (المعلم بيومى) ليتزوج (أحلام).
علاقة (أحلام) بـ (عوض) علاقة قديمة منذ كانا طفلين فى العشش. تحيط بعلاقتهما رغبة حسية غامضة وحب معقد من نوعٍ خاص, يتحايلان على الشهوة بالحبال والتلاعب!! التلاعب الذى تجيده (أحلام) بفطرتها الأنثوية. (أحلام) تحب (عوض) جدًا, لكنها تربطه بالحبال فى أحد الأبواب المتهالكة لعشة مهجورة فوق هضبة المقطم متواطئةً مع ما يريد من قبلات وأحضان, ثم تضربه بخيزرانة وهو مربوط فى الباب عقاباً له على صداقته بـ "نوال/عبلة كامل" التى تعرف عليها أثناء رحلته لجمع المبلغ المطلوب للزواج, تضربه حتى ينزف, حين يفك الناس وثاقه يسير بين العشش مضرجًا فى دمائه يغنى أغنية "هاتجوزها" التى كتبها أيضاً (داوود) والتى تدور حول فكرة واحدة أنه سيتزوج "أحلام" مهما حدث, فقط ليريها المر والذل والضرب, سينتقم منها بزواجه منها, فى إحدى اللقطات الفانتازية التى يغنى فيها (ماجد المصرى) أغنية "هاتجوزها" يسير ساحبًا وراءه مجموعة كلاب مكممة وحشية , ودافعًا أمامه "أحلام" من شعرها , مرتدياً غطاءاً أسوداً من القماش حول رأسه مربوط بحبل عند رقبته كزبانية الجحيم , و حين تتعثر محاولاته فى جمع المبلغ تتهدد أحلام (أحلام) فتغنى أغنية أخرى تعلن عدم تنازلها عن الزواج منه ماسكةً حبلاً غليظاً التقطته من أمام مستودع لمياه الشرب و تلفه حول رقبة (عوض) لتجره خلفها فى مشهد فانتازى آخر , كما تلفه حول نفسها و هى تغنى فوق فراشها حالمةً بالزواج منه متنهدةً باسمه. العلاقة بين "أحلام" و(عوض) من العلاقات المميزة التى لا أنساها بكل تعقيدها وبساطتها.
طوال رحلة (عوض) لجمع المال اللازم يأخد المشورة من أحد المقامات الموجودة تخص "سيدى أبو العلامات" كما ورد فى الفيلم. يبوح (عوض) بمشكلته لـ "أبو العلامات" طالبًا منه علامة تدله على التصرف الصحيح. استشاره 4 مرات طوال الفيلم انتهت 3 منها بعلامات تدله على الرأى الصواب: براز حمامة يسقط على رأسه من أعلى المقام, وقطعة فخار تنكسر فوق رأسه بعد إنتظار طويل زارته فيه (أحلام) مداعبةً أحلامه برقصها على أنغام أغنية أخرى كتبها (داوود) ولحنها (راجح) أيضًا, في المرة الثالثة ترعد السماء فيستدل بذلك أن "أبو العلامات" يوافقه على الخطة التى دبرها مع "نوال" بائعة الهوى, تلك الفتاة التى تعرف عليها فى إحدى مرات جلوسه على حافة الهضبة مع (عم ركبة) و(عنتر), فيقرر على إثر رعد السماء أن يسطو سطوًا مسلحًا على زبائن (نوال) الذين تستدرجهم إلى سفح الهضبة. وفى المرة الرابعة يرفض "أبو العلامات" أن يشير على "عوض" برأى ما فيمضى محبطًا.
من الشخصيات التى ينثرها (داوود عبد السيد) فى السيناريو - المكتوب بنكهة أدبية واضحة مستلهمًا روح أدب أمريكا اللاتنية - شخصية (عم ركبة) العجوز الحالم المعجون بشبق الشيخوخة, فهو يحب (رمانة) - أخت (أحلام) - حبًا جارفًا ,يشتهيها ولا يملّ شرب سبرتو ردئ مخلوط بمواد مخدرة كى ينسى عذابه فى حبها, شبقه وجنونه يجعلاه يشترى منظارًا مقربًا فى بداية الفيلم من أحد بائعى الروبابيكيا الذين يعرفهم فيشاهد بالصدفة النساء عاريات فى العشش التى تحيط به, يشاهدهم عن قرب يستحمون أو يجلسون على سجيتهم فى بيوتهم, يشاهدهم من خلال الأسطح و النوافذ الضيقة مستمتعًا بما يراه, تفضحه زوجته حين تلقى نظرة داخل المنظار, فلا تتردد عن فضح زوجها معلنةً أنه اشترى جهازاً "بيطلع النسوان عريانة", لتسير بعدها سيدات الحى ملفوفات فى حصر متربصات بكل من يحدق فيهن خائفات من آلة (عم ركبة) العجيبة. (داوود عبد السيد) لا يفوته فى هذا المشهد وجود سيدة لها رأى آخر فى موضوع "المنظار" تسير فى طرقات الحى العشوائى تتمايل وتتهادى مستعرضة تضاريس جسمها. شخصية (عم ركبة) من الشخصيات المميزة جيدًا, ينهى حياته قافزًا من فوق الهضبة بعد أن حقق حلمه وذاب فى جسد "رمانة" أخيرًا, ففيه استطاع أن يمتلك روحها بشكل شاعرى عميق جدًا بعد أن رقصت بتوجيه إيقاع دفه وعصاه الرفيعة فى أحد أعراس الحى. (رمانة) ذاتها أدركت أن (عم ركبة) قد امتلكها بهذا الرقص الشيطانى الذى تلبسها بإيعاز من ضرباته على الدف. مونتاج هذا المشهد و إيقاع الطبلة ورقص (حنان ترك) وديكور وإضاءة المكان ليلاً صنع غلالة سحرية بديعة وجعل (رمانة) تتبع (عم ركبة) إلى حيث يجلس على حافة الهضبة تاركةً يده تعتصر خصرها ثم تحضنه فى النهاية. يجرى (عم ركبة) إلى حافة الهضبة لا يطلب شيئًا بعد امتلاكه روح (رمانة) غير الطيران ليقع بعد أن لاعب أخيرًا حلمه ورغباته. عادة ما تنتهى روايات الأدب اللاتنيي بنهاية جنائزية للشخصية الحكيمة الخبيرة فى الرواية, وعادةً ما تكون تلك الشخصية طاعنة فى السن تشربت من ماء الحياة ما تشربت. انتهت حياة (عم ركبة) نفس النهاية حالمًا بالطيران من فوق هضبة المقطم.
"مطر/فتحى عبد الوهاب" - شقيق (عوض) - شخصية أخرى, يعمل طبالاً فى إحدى الملاهى الليلية, رأسماله الوحيد طيلة 3 أعوام قضاها طبالاً عبارة عن مجموعة ملابس وأحذية يختارها ويحافظ عليها باعتبارها واجهته فى العمل, مضحيًا فى سبيلها بأجره كاملاً. (مطر) يعود منزله فى الصباح الباكر لينام بعد ليلة منهكة, كان (عوض) قد سرق كل ملابس وأحذية أخيه ليبيعها متحصلاً على بعض نقود تساعده فى رحلته , يبلغ (مطر) الشرطة متهمًا (عوض) بالسرقة, باكيًا أشد البكاء فى حسرة على ضياع حصيلة عمله, لكنه يتنازل عن البلاغ الذى قدمه حين يدرك عبث الموقف وأن مكان إقامته الوحيد هو السرير المجاور لسرير (عوض) فى نفس العشة. يخرج من قسم الشرطة باكيًا بعد أن تلاعبت الحياة بمتعته الوحيدة, الحياة ربما تكون جميلة مغرية مفتوحة شهية غامضة لكنها لم تكن أبدًا عادلة.
رغم أنى لا أرى فى (ماجد المصرى) نموذجًا جيدًا للممثل الفنان الموهوب, إلا أن أداءه جاء مناسبًا تمامًا لأجواء (داوود عبد السيد) فى الفيلم, أداؤه التقليدى النمطى كان مناسبًا لشخصية (عوض), أيضًا بقية الممثلين كـ (حسن حسنى) و(حنان ترك) و(محمد متولى) و(عبلة كامل) و(فتحى عبد الوهاب) نجحوا تمامًا فى الرقص داخل السيرك الذى نصبه (داوود) بين العشش العشوائية فوق هضبة المقطم, سيرك ضخم للتلاعب بالأحلام.
فشخصية مثل "زينهم/محمد متولى" تتلاعب برغبات و أحلام "أحلام" , يروادها عن نفسها بحكمة مستغلاً حاجتها , , يربط ورقة بنكنوت قيمتها 10 جنيهات بخيط رفيع لا تراه "أحلام" أثناء مرورها أمام بيته المبنى بالطوب الأحمر من دورين , و حين تهمّ بالتقاط الورقة يراقصها بالخيط , ضاحكاً فى النهاية طالباً منها أن تصعد إليه كى يعتنى بتسرحة شعرها , الغواية من الأشياء التى يهتم بها "داوود" فى أفلامه جداً , الطابع السحرى و الداخلى للغواية , تصعد إليه "أحلام" ليصفف شعرها طالباً منها أن تزوره فى سهرته مع صديقتها "سمية/سلمى غريب" مقابل 100 جنيه قبل زواجها.
تتحدث جمل الحوار عما يدور فى عقل "داوود عبد السيد" من أفكار و رؤى , ينطقها الأبطال كلٌ حسب طبيعة دوره , فـ "أحلام" تصنف نظرات الذكور إلى جسدها فى الطرقات إلى ثلاث نظرات مختلفة (بصّة جعانة عاملة زى جمرة النار , تلسع) و (بصّة شبعانة حنينة زى الإيد لما تطبطب ع الكتف , تدفى , تاخدك فى حضنها و تضحك) و (بصّة تالتة خالص مالهاش مثيل , لا جعانة و لا شبعانة , زى الزيت التخين , الدافى , لما ينزل ع الجلد , بصة مالهاش طعم) , يذكرنى هذا الحوار بحوار "سيد مرزوق/على حسنين" فى فيلم (البحث عن سيد مرزوق) حين قسّم البشر إلى أربعة فئات (أسياد) و (عبيد) و (متمردين) و نوع رابع لم يذكره على ما أذكر ... "عم ركبة" نفسه يشكو فى بكائية حزينة أثناء توجعه فى حب "رمانة" : (ليه دايماً الحلاوة بتمسخّ , الجمال و الحلاوة بيخلصوا) معتقداً نفس الشئ فى "رمانة" نفسها فجسدها و حلاوتها سيزولان بعد أعوام من الزواج و لن تعود "رمانة" الشهية التى يتعذب برغبته فيها , دائماً فى جمل حوار "داوود عبد السيد" ما أشعر افتقاداً للنضارة , نضارة الحياة التى نبحث عنها.
رغم اختيار (داوود) لطبيعة صورة خشنة فى فيلم (سارق الفرح) ربما تكون نتيجة نوع شريط الخام الذى استخدمه فى التصوير, ورغم الإضاءة الخشنة أيضًا التى يغلب عليها ضوء النهار الساطع خاصة فى الطرقات والساحات المفتوحة للسماء بحكم طبيعة المكان, فضلاً عن الديكور المتقشف القاسى والجاف للغاية, برغم كل ذلك كله إلا أن ثمة نضارة أشعرها فى روح شخصياته, فى أحلامهم, فى التلاعب برغباتهم المحشورة فى أعمق نقطة لديهم, نضارة الحياة وصلتنى رغم خشونة الصورة التى صاغها بجودة عالية مدير التصوير (طارق التلمسانى) ومنسق الديكور (أنسى أبو سيف), مونتاج الفيلم واختيار اللقطات الثابتة فى الغالب للتقطيع بينها, إلى جانب اختياره لحجم لقطات أغلبها لقطات طويلة أو متوسطة لم يهتم فيها "داوود" كثيرًا بتكوين الكادر أو زاوية التصوير, إلا أنها أظهرت خشونة الملابس وطبيعة الحياة والأثاث والطرقات, وغيرها من تفاصيل المعيشة فى هذا الحى العشوائى فوق هضبة المقطم, وصنعت موسيقى (راجح داوود) الجو الذى يريده (داوود عبد السيد) فى الفيلم, سحرية الجوانب الداخلية المجهولة للشخصيات, مستخدمًا آلاته الأثيرة: (كلارينيت) يعلو فى لحظات شاعرية مبهجة إلى حد كبير, ليزايد على (فلوت) بارد متجهم , و(أبوا) حزينة عميقة شاردة تعكس الأحلام المنتهكة لشخصيات الفيلم.