في الكثير من أفلام يوسف شاهين, خاصة التي صنعها في السبعينيات والثمانينيات, تكتسب لغته السينمائية قدرة علي الإيحاء والتعبير عما يتجاوز سطح الصورة ورؤية بليغة للعالم, أو perspective eloquent, كما يسميها "ماركيز" في كتاب "رائحة الجوافة", و التي تميز الأديب الحقيقي من عدمه. أهم خصائص هذه الرؤية الشعرية أن يكون الإسلوب نفسه هو جوهرها. لا يمكن مثلا فصل رؤية ماركيز للعالم عن أسلوب الواقعية السحرية الذي أصبح في حد ذاته تعبيرا عن جوهر هذه الرؤية. بالنسبة لشاهين لا يمكن أيضا فصل مضمون أي من أفلامه عن اسلوبه الذي يتفشي في كل عناصر العمل من تصوير وتمثيل ومونتاج ..الخ, بحيث يمكن أن تتعرف علي أي من أفلامه, أو ما يشبهها في الإسلوب, بمجرد النظر اليها, حتي إذا لم تكن قد شاهدتها من قبل. هذه الرؤية يمكن أن نطلق عليها الواقعية النفسية, تمييزاً لها عن الواقعية الاجتماعية و الواقعية الاشتراكية اللذين هيمنا علي تاريخ السينما في مصر و أعاقا القدرة علي الاستمتاع و تقبل أنواع أخري من الأفلام لدي الغالبية الساحقة من الجمهور, لكن يظل هذا التعريف عاماً و لا يصف بدقة الإسلوب المتفرد لشاهين بين كل مخرجي العالم بغض النظر طبعاً عن تباين المستوي الفني لأفلامه.
من خصائص الشعر أيضاً أن يتجاوز الوسيط ( اللغة, الصورة ) وظيفته الوصفية الإخبارية المباشرة و يعود إلي منابعه كمثير حسي وجمالي للعقل, و في هذا المفهوم فإن سينما شاهين احتفالية و عيد للحواس و مثيرات المشاعر حتي و هي تتحدث عن وقائع و أفكار مباشرة جداً, وحتي لو كانت توثق هذه الوقائع ظاهريا, ومن العجيب مثلا أن قمة اللغة الشعرية عند شاهين تتجلي في أفلامه ذات النزعة التوثيقية مثل "الناس و النيل" و "القاهرة منورة بأهلها" و "العصفور" و "اسكندرية ليه؟". و مهما كان جفاف وتجريد الموضوع الذي يتناوله شاهين فهو يحول الشريط الي مثير حسي يخاطب العين والأذن قادراً - بقدرة الشعر السحرية - علي مخاطبة بقية الحواس الخمس أيضاً. من هنا اهتمامه البالغ بالموسيقي و الرقص و التشكيل كأدوات أساسية للتعبير الشعري.
شاهين و الموسيقي
لو لم يكن شاهين سينمائياً لكان قد أصبح موسيقيا بالتأكيد. حاول أن تتذكر واحداً من أفلامه و سوف يأتي إليك مصحوباً بالموسيقي و الأغاني المميزة له. في الظاهر يبدو أنه متأثر بالميلودراما الغنائية التي سادت السينما المصرية. هذا صحيح و لكن الأغاني في معظم هذه الأفلام لم يكن لها علاقة بنسيج الفيلم ككل, الهدف منها هو الاستماع الي أغان جيدة بجانب مشاهدة قصة سينمائية, أو العكس مشاهدة قصة سينمائية بجانب الاستماع إلي مطربك المفضل. الموسيقي و الأغاني في أفلام يوسف شاهين جزء عضوي لا يمكن فصله عن معني الفيلم وعن احساسك به. خذ عندك "عودة الإبن الضال" أو "العصفور" أو "اليوم السادس"... أو غيرها من أفلامه التي تلعب فيها الموسيقي دوراً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله أو حتي حذف أو اضافة شئ هنا أو هناك. و مع هذا الاهتمام الشديد بموسيقي أفلامه و احتوائها غالباً علي استعراضات و أغان إلا أنك لن تجد - غالباً - إفراطاً في استخدامها باستثناء بعض أفلامه الأخيرة مما قد يكون ناتجا عن ضعف السمع الذي تفاقم لديه في سنواته الأخيرة و جعله أكثر ميلاً للأصوات المرتفعة.
و من الحكايات المعروفة مثلا أثناء اعداد أغنية "حدوتة مصرية" لـ "محمد منير" أنه كان يستمع إلي الأغنية كما تم تنفيذها في الإستديو حين بدأ يطلب من مهندس الصوت أن يلغي أصوات الآلات الموسيقية واحدة وراء الأخري, حتي لم يبق في النهاية سوي صوت الإيقاع و "محمد منير" فقط و هو الشكل الذي خرجت به الأغنية في النهاية. من المعروف أيضا أنه كان يجيد العزف علي البيانو و له بعض المحاولات التأليفية, و قد غامر في أحد أفلامه الأخيرة و هو "سكوت هنصور" بتلحين أحد استعراضات الفيلم بعد أن تأخر الموسيقار الراحل "كمال الطويل" عن تسليم اللحن في موعده. سعي شاهين في فترات من حياته الي إنجاز أفلام موسيقية خالصة, لعل أول هذه المحاولات كانت مع "ليلي مراد" في "سيدة القطار" و "فريد الأطرش" في "ودعت حبك" و لكن لم يستطع أن يخرج فيهما كثيرا عن نمط الأفلام الغنائية المصرية في ذلك الوقت.
في الستينيات حين سافر إلي لبنان قام بإخراج فيلم موسيقي كامل لـ "فيروز" هو "بياع الخواتم" المأخوذ عن مسرحية موسيقية, و لكن غلب عليه الشكل المسرحي الإستعراضي. المحاولة الأكثر اكتمالا لصياغة فيلم موسيقي كانت "عودة الإبن الضال" الذي يبدأ بعبارة (مأساة موسيقية) علي الشاشة, و كأنه مع مؤلف الفيلم "صلاح جاهين" كانا يضعان تعريفا لنوع فني جديد من الأفلام الموسيقية يميز المزاج و الميراث الموسيقي المصري و يتعارض مع نوع الكوميديا الموسيقية الهوليوودي الذي تحول إلي هجين غريب في السينما المصرية. "عودة الإبن الضال" نموذج مكتمل لما يمكن أن نطلق عليه مأساة موسيقية مصرية ولكن للأسف الشديد لم تستمر هذه المحاولة في أفلام لاحقة بعد أن تحول شاهين - الملول بطبعه وعاشق التغيير إلي سيرته الذاتية و الأفلام التاريخية بعد ذلك. و للأسف أيضاً لم ينتبه النقاد و لا السينمائيون إلي خصوصية و خصائص هذا الفيلم الفذ مما يحتاج إلي مقال آخر مفصل.
الشئ المبهر فيما يتعلق بالغناء والموسيقي في أعمال شاهين هو قدرته علي استشراف مستقبل الذوق الموسيقي العام, وليس الأمر فقط أنه اختار موسيقي نشيد (راجعين) لفيلمه "العصفور", وهو الفيلم الذي منعه وزير الثقافة في ذلك الوقت "يوسف السباعي" و لم يسمح بعرضه إلا بعد انتصار أكتوبر وتحولت موسيقاه إلي النشيد الوطني لمصر (قبل أن يقوم السادات بتغييره مرة أخري بنشيد بلادي), و لكن بصيرة شاهين العجيبة تتجلي في أن المطربين الذين بقوا من هذا العصر و المفضلين لدي الشباب المثقف الآن هم "الشيخ امام" و "ماجدة الرومي" و "محمد منير" الذين خرجت أصواتهم داخل قاعة عرض سينمائي لأول مرة علي يد يوسف شاهين. و رغم أنه عمل دائماً مع مؤلفين مصريين, يميلون للطابع الشرقي في الموسيقي غالباً, مثل "علي اسماعيل" و "كمال الطويل" و "عمر خيرت" و "محمد نوح", إلا أنهم يتميزون مثله بالفهم العلمي للوسيط الفني و لديهم القدرة مثله علي تطبيق المعايير العلمية العالمية علي موسيقاهم بحيث تستطيع أي أذن تقبلها واستساغتها. و فيما يتعلق بعمله في تركيب هذه الموسيقي علي مشاهد الأفلام ودمجها, بجوار الأغاني الأخري المستخدمة في المقدمة أو الخلفية و شريط الصوت بشكل عام, فقد كان لديه براعة نادرة في التوليف الصوتي (الميكساج) و في التوفيق بشكل خاص بين الموسيقات الشرقية والغربية داخل جديلة واحدة منسجمة ومتناسقة تماماً. أحد الأمثلة البارزة علي ذلك المقطع الذي يتوسط فيلم "اسكندرية كمان و كمان" عندما يغادر هو - في دور المخرج يحيي - و عمرو عبد الجليل - في دور تلميذه - قاعة ختام مهرجان كان في فرنسا بعد فشلهما في الحصول علي جائزة والمزج الموجع بين (ميلانخولية) "أم كلثوم" في أغنية "فات الميعاد" وبين إحدي الأغاني الفرنسية الشعبية التي تعزف علي الأكورديون.
شاهين هو أيضا المخرج الوحيد الذي ظهر ألبوم باسمه يحمل بعض موسيقي و أغاني أفلامه في الثمانينيات. الألبوم ضم أغاني لـ "ماجدة الرومي" في "عودة الإبن الضال" و "محمد منير" في "حدوتة مصرية" و "الشيخ إمام" وأداء الكورال لنشيد (راجعين) للموسيقار "علي اسماعيل", و الطريف أنه ضم أيضا بعض المقاطع الحوارية من فيلمي "الأرض" و "الناصر صلاح الدين". هذا بالطبع أمر مختلف عن الألبومات التي تصدر باسم المطربين وتضم أغانيهم في الأفلام, أو الألبومات التي تصدر بمصاحبة الأفلام كنوع من الدعاية المتبادلة بينهما, وبالطبع تختلف عن الـ فيديوكليب الذي يتم عرضه علي القنوات الفضائية كدعاية مباشرة للأفلام. الموسيقي عند شاهين تتجاوز هذا الدور التكميلي التجميلي وتنحو الي أن تصبح صوت الصورة نفسها - اذا أمكن للصورة أن يكون لها صوت - ولعلها تهدف أيضاً إلي تعويض مالا يمكن قوله بالكلمات... بالحوار, الذي رغم كثرته, أو ربما بسبب كثرته, يظل أضعف ما في أفلام يوسف شاهين وأقل عناصرها شاعرية.
شاهين و الرقص
لم يكن اهتمام شاهين بالرقص أقل من اهتمامه بالموسيقي حتي اتهمه البعض بتتفيه القضايا السياسية واختزالها في الرقص كما في المصير, أو في جعل قرداتي يعزف ويجيد رقصات "جين كيلي" و "فريد أستير" كما في "اليوم السادس". الرقص عند شاهين هو قمة فنون الأداء التعبيرية وحتي في الأفلام التي لا تحتوي علي رقصات فإن حركة الممثلين داخل الكادر وحركة الكاميرا من حولهم ترسم خطوات راقصة مرسومة بدقة. و هو عندما تخيل أن له ابناً في آخر عمل عن سيرته الذاتية "اسكندرية نيويورك" جعله راقصاً, و يمكن تتبع هذا الخط منذ "اسكندرية ليه؟" الذي يروي فيه جزءاً من فترة مراهقته من خلال شخصية (يحيي) التي أداها "محسن محيي الدين". في عدد من المشاهد نعرف شغف يحيي بالرقص و إجادته له بجانب عشقه للتمثيل, و عندما يتحول "محسن محيي الدين" إلي امتداد معنوي له يصر علي تعليمه الرقص ليصنع منه فناناً استعراضياً شاملاً كما فعل في "اليوم السادس", و هو يشير الي هذه الوقائع في الجزء الثالث من الثلاثية "اسكندرية كمان وكمان", من خلال علاقة المخرج (يحيي) بتلميذه, و هذه المرة يسعي إلي تحقيق حلم الرقص من خلال اكتشافه الجديد "عمرو عبد الجليل" الذي يؤدي "دور محسن محيي الدين"! الرقص عند شاهين ليس فقط معادلاً للفن في مقابل الحياة, و لكنه معادل للحرية في مقابل الكبت كما في المصير حيث يقع الشاب (عبدالله/هاني سلامة) ضحية الصراع بين حبه للرقص وبين ميله للتطرف الديني. و يدرك شاهين بحسه الفطري هنا العلاقة الوثيقة بين الرقص و الفن باعتباره أقدم أنواع الفنون - و العبادات أيضاً عندما كان الفن جزءاً من الدين, أو العكس.
شاهين و التشكيل
أهم ما في اسلوب شاهين كمخرج, بعد الإيقاع المتدفق و الحركة الدائبة الرشيقة بين المشاهد واللقطات, هو تكوين الكادر الذي يبدو كما لو أن هناك رغبة في تحويل كل لقطة إلي لوحة تشكيلية حية. و غالباً ما يتشكل التكوين في لقطاته من مقدمة للكادر وعمق تحتلهما الشخصيات ومن إطار علي الجانبين أو أعلي و أسفل من الديكور و الإكسسوارات, و من القليل جداً أن تجد في أفلام شاهين كادراً مفتوحاً أو عشوائي التكوين, و غالبا مايتم التنسيق بين حركة الممثلين و حركة الكاميرا لرسم تكوينات جديدة داخل اللقطة الواحدة. و بجانب التكوين هناك بالطبع حرص علي اختيار الألوان والإضاءة بشكل يتناسب مع احساسه بالمشهد و الإحساس الذي يريد توصيله من خلاله... و مع أن هذه بديهيات عمل المخرج السينمائي, إلا أن الكثيرين يتجاهلونها أو لا يجيدونها بسبب الحركة الدائمة في الصورة السينمائية أو ظروف التصوير التي قد يصعب معها التحكم في كل هذه العناصر في نفس الوقت, أو ببساطة لأنه ليس لديهم ثقافة تشكيلية. و يبدو أن خبرة شاهين بالمسرح التي اكتسبها من خلال دراسته في الولايات المتحدة قد خلقت لديه هذا الإحساس الشديد بالتكوين والتفكير في اللقطة باعتبارها مشهداً مسرحياً متكاملاً.
شاهين و الأدب
من الطبيعي أن يوسف شاهين سعي, خاصة في منتصف حياته المهنية عندما ازداد نضجاً فنياً و وعياً سياسياً و اجتماعياً, و توسعت دائرة معارفه بأهل الثقافة, إلي التعاون مع أدباء و مفكرين معروفين. بدأ هذا التعاون مع فيلم جميلة في عام 1958 الذي كان بداية تفتحه علي عالم السياسة أيضاً, حيث شارك في كتابة السيناريو كل من "يوسف السباعي" و "نجيب محفوظ" و "عبد الرحمن الشرقاوي". ثم تكرر التعاون مع هذه الأسماء في "الناصر صلاح الدين" , و مع نجيب محفوظ في "الإختيار" ثم مع عبد الرحمن الشرقاوي في "الأرض", وهو أحد الأعمال النادرة التي أخذها عن نص أدبي معروف لم يتكرر إلا مع رواية اليوم السادس للأديبة الفرنسية المصرية "أندريه شديد".
عمل شاهين أيضاً مع "حسن فؤاد", الذي شاركه في كتابة سيناريو "الأرض" و مع "لطفي الخولي" في "العصفور" و "صلاح جاهين" في "عودة الإبن الضال", و "يوسف إدريس" في "حدوتة مصرية". لم تكن العلاقة بين شاهين و كتاب سيناريوهات أفلامه علي ما يرام دائماً, ليس فقط لأنه كان يفهم و يعشق الوسط السينمائي أكثر بكثير من حبه للأدب, و لكن أيضاً لأنه كان يفرض رؤيته و وجهة نظره علي أي سيناريو خاصة منذ أن بدأت أفلامه تصبح أكثر التصاقا به, أي منذ اسكندرية ليه؟. و أعتقد أنه حتي لم يكن قارئاً جيداً للأدب. و خلافه الشهير مع "يوسف إدريس" أثناء عمل "حدوتة مصرية" يدل علي أنه لم يكن يؤمن بقدسية النص الأدبي, و حتي رواية "اليوم السادس" قام بعمل تعديلات كثيرة عليها غيرت من مضمون العمل و معناه. يمكننا أن نقول, في النهاية, أن الشعر في أعمال شاهين متين العناصر فيما يتعلق بالإيقاع و الموسيقي و الصورة الشعرية, و لكنه أضعف فيما يتعلق بلغة الكلام, غير أن هذا العيب يتلاشي تماماً في الأعمال التي شهدت تعاوناً صحياً مع كتاب متمكنين من اللغة كما في "الأرض" و "الإختيار" و "العصفور" و "عودة الإبن الضال".
------------------------
المقال للناقد السينمائى "عصام زكريا" تم نشره هذا الأسبوع, فى العدد رقم 786 من جريدة (أخبار الأدب).
1 comment:
شركة تنظيف منازل بالخبر
شركة رش مبيدات بسيهات
Post a Comment